لا مكان اليوم ولا غد لمغرب يسير بسرعتين": رؤية ملكية لوحدة التنمية والعدالة المجالية جهة بني ملال-خنيفرة نموذجًا حيًّا لهذا التفاوت

 





لا مكان اليوم ولا غد لمغرب يسير بسرعتين": رؤية ملكية لوحدة التنمية والعدالة المجالية

جهة بني ملال-خنيفرة نموذجًا حيًّا لهذا التفاوت

 

بقلم : محمد المخطاري

 

في ظل التحولات العميقة التي يشهدها المغرب على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، برزت الحاجة إلى مراجعة شاملة لنهج التنمية المعتمد، بما يضمن عدالة توزيع الثروة وتكافؤ الفرص بين مختلف جهات المملكة.

وفي هذا السياق، جاءت العبارة القوية لجلالة الملك محمد السادس: "لا مكان اليوم ولا غد لمغرب يسير بسرعتين"

لتُعبّر عن تحذير واضح من استمرار التفاوتات المجالية، ولتُجسد رؤية ملكية استراتيجية تدعو إلى نموذج تنموي موحد، مندمج، وشامل.

إنها ليست مجرد عبارة خطابية، بل دعوة صريحة إلى تجاوز الفوارق الاجتماعية والمجالية، وبناء مغرب الإنصاف والتوازن، حيث تستفيد جميع المناطق — دون استثناء — من ثمار النمو، وتحظى بحقها المشروع في التنمية والكرامة.

 

أولًا: دلالة العبارة ومقاصدها

تحمل العبارة الملكية: دلالة رمزية عميقة ورسالة سياسية واضحة، تعكس رفضًا قاطعًا لاستمرار الفوارق المجالية والاجتماعية بين جهات المملكة. فـ"المغرب ذو السرعتين" هو واقع ملموس؛ حيث تستفيد بعض الجهات الكبرى، مثل الدار البيضاء، الرباط، وطنجة، من دينامية اقتصادية وفرص استثمارية متقدمة، بينما تعيش جهات أخرى على هامش التنمية، وتُواجه ضعفًا حادًا في البنيات التحتية وفرص الشغل، كما هو الحال في الجنوب الشرقي، الريف، والمناطق الجبلية.

وفي هذا السياق، تُجسد جهة بني ملال-خنيفرة نموذجًا صارخًا لهذا التفاوت. فرغم موقعها الجغرافي الاستراتيجي، فإنها تحتل مراتب متأخرة في مؤشرات التنمية البشرية والاقتصادية.

فالقطاع الفلاحي، الذي يُمثل الركيزة الاقتصادية الأساسية للجهة، يعيش أزمة هيكلية نتيجة توالي سنوات الجفاف والتغيرات المناخية، دون أن تُواكبه الدولة ببدائل اقتصادية ناجعة أو تحولات بنيوية في طرق الإنتاج.

أما القطاع الصناعي، فيكاد يكون غائبًا، ما يُضاعف هشاشة البنية الاقتصادية، ويُكرّس اعتماد الساكنة على أنشطة أولية منخفضة المردودية.

وفي المقابل، تزخر الجهة بمؤهلات طبيعية وسياحية فريدة، ، غير أن هذه المقومات لا تُستثمر بالشكل المطلوب، بسبب غياب رؤية سياحية مهيكلة، وضعف البنيات التحتية، وغياب الاستثمارات في مجالات الإيواء، الترفيه، والنقل السياحي. وهو ما يجعل السياحة في الجهة مجرد نشاط موسمي غير منتظم، يفتقد لمقومات الإقلاع الحقيقي.

إن هذا الواقع يُجسّد تمامًا مقاصد الخطاب الملكي، الذي يُحذّر من مغرب تُجزّئه التنمية، ويدعو إلى نموذج موحّد في الفرص، مندمج في الإمكانيات، وعادل في توزيع الموارد.

ثانيًا: العدالة المجالية كشرط للاستقرار والتنمية

لم تعد العدالة المجالية مجرد خيار تنموي، بل أضحت ضرورة استراتيجية ملحّة لضمان استقرار البلاد، وتعزيز تماسكها الاجتماعي والمجالي. فاستمرار الفوارق في الولوج إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم، الصحة، وفرص الشغل، يُفضي إلى إحساس جماعي بالتهميش، ويُغذي مشاعر الإقصاء التي تدفع فئات واسعة، خاصة من الشباب، إلى الهجرة الداخلية والخارجية بحثًا عن ظروف عيش أفضل.

وقد نبهت العديد من التقارير الوطنية، وعلى رأسها تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، إلى أن غياب التوازن المجالي يُعد من بين أبرز العوائق التي تقف أمام تحقيق نمو اقتصادي مستدام ومنصف.

وانطلاقًا من هذا التشخيص، جاءت الدعوة الملكية إلى مغرب يسير بسرعة واحدة كدعوة حاسمة لتجسيد مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وتوجيه الجهود نحو الجهات التي تعاني من هشاشة بنيوية مزمنة، وفي مقدمتها جهة بني ملال-خنيفرة، التي تمثل إحدى أبرز صور هذا التفاوت المجالي الذي يتطلب تدخلاً عميقًا وموجهًا.

ثالثًا: النموذج التنموي الجديد كآلية للإنصاف المجالي

انسجامًا مع التوجيهات الملكية، جاء النموذج التنموي الجديد ليؤكد أن تحقيق العدالة المجالية يمر عبر دمقرطة التنمية وجعلها أكثر شمولًا، عدالة، وإنصافًا. وقد حدّد هذا النموذج أولويات واضحة من شأنها تقليص الفوارق بين الجهات، من أبرزها:

·         تعزيز الاستثمارات العمومية والخاصة في المناطق القروية والجبلية.

·         تعميم البنيات التحتية والخدمات الأساسية، بما في ذلك الطرق، الصحة، والتعليم، في مختلف ربوع الوطن.

·         دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة، لا سيما في المناطق الهشة والمهمشة، باعتبارها محركًا لخلق فرص الشغل المحلية.

·         الحد من الفوارق الاجتماعية في مجالات التعليم، الصحة، والسكن اللائق.

إن الخطاب الملكي لا يُمثّل مجرد إعلان نوايا، بل يُشكّل مرجعية استراتيجية تُرجمَت إلى سياسات عمومية متكاملة، تستهدف بشكل مباشر تقليص الهوة بين المغرب "النافع" والمغرب "المهمش".

وفي هذا السياق، تُمثّل جهة بني ملال-خنيفرة مثالًا حيًّا على المجالات الترابية التي ينبغي أن تحظى بأولوية في توزيع المشاريع التنموية والموارد الاستثمارية، نظرًا لما تعانيه من اختلالات بنيوية، وما تزخر به في المقابل من إمكانيات واعدة غير مستثمرة بعد.

رابعًا: مسؤولية جماعية لبناء مغرب متكافئ

إن بناء مغرب يسير بسرعة واحدة ليس مسؤولية الدولة المركزية وحدها، بل يُعد مشروعًا وطنيًا مشتركًا، يستوجب انخراطًا فعليًا لجميع الفاعلين:

·         الحكومة، من خلال وضع السياسات العادلة وتوزيع الموارد بشكل منصف.

·         الجماعات الترابية، باعتبارها الأقرب إلى المواطن والأقدر على تحديد الحاجيات المحلية.

·         المجتمع المدني، بدوره الرقابي والترافعي وتأطيره للمواطنين.

·         القطاع الخاص، كشريك في التنمية وفاعل في خلق الثروة وفرص الشغل.

ولبلوغ هذا الهدف، تبرز ضرورة:

·         التخطيط العادل للمشاريع بناءً على الأولويات الفعلية والحاجيات الحقيقية لكل مجال ترابي.

·         الاستثمار في العنصر البشري عبر دعم التعليم، التكوين المهني، والتمكين الاقتصادي للشباب والنساء.

·         محاربة الفساد والريع، باعتبارهما من بين أبرز العوامل التي تُكرّس الفوارق وتُفرغ السياسات من نجاعتها.

إن تحقيق مغرب الإنصاف لا يتحقق إلا عبر تضافر الجهود والتقائية السياسات، بما يجعل من العدالة المجالية ركيزةً أساسية لتنمية شاملة ومستدامة.

العبارة الملكية ليست مجرد شعار عابر، بل هي رؤية استراتيجية متكاملة، وخارطة طريق لبناء مغرب الغد؛ مغرب يقوم على المساواة والعدالة والكرامة، ويكفل لجميع أبنائه الحق في التنمية والعيش الكريم، بغض النظر عن انتمائهم المجالي.

وتُجسد جهة بني ملال-خنيفرة هذا الواقع التنموي غير المتوازن، إذ تعاني من هشاشة بنيوية متعددة الأبعاد. لكنها، في الوقت نفسه، تمثل فرصة واعدة لإثبات أن التنمية الشاملة ليست حكرًا على جهات بعينها، بل ممكنة في كل ربوع المملكة إذا ما توفرت الرؤية، الإرادة، والاستثمار العادل.

إن بناء مغرب يسير بسرعة واحدة ليس حلمًا مؤجلًا، بل واجب جماعي ومسؤولية وطنية، تبدأ من الاعتراف بالفوارق، وتمر عبر تفعيل النموذج التنموي، لتصل إلى مغرب منصف لكل أبنائه، أينما وُجدوا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق