ليلة الرباط تلك لم تكن حفلاً للجوائز بقدر ما كانت مرآةً صافية لوطنٍ يطلّ على نفسه عبر ابنه البار، لاعبٍ يرفع الكأس بيمناه، ويضع بقلبه اليسرى على كتف أمٍ صنعت من الدعاء درعاً ومن الحلم مركباً يعبر به محيطات الكرة وأمواج الحياة معاً.
لم تعد الكرة في المغرب مجرّد مباراة تنتهي بصافرة، بل صارت لغةً يتعلّمها الصغار قبل الأبجدية، وصناعةً تتقاطع فيها السياسات الرياضية مع أحلام الأزقّة، وتتجاور فيها خطط الاتحادات مع وجوه الأمهات على المدرّجات. من مدرجات حيٍ شعبي إلى منصة تتويج إفريقية، يمرّ خيطٌ واحد رفيع لكنه متين: علاقة لاعبٍ بأمه، ووطنٍ بأبنائه، وجمهورٍ بذاته وهو يرى صورته تتوهج في عيون نجومه.
في لحظة الامتنان تلك، كان حكيمي يعيد ترتيب المعنى: الجائزة ليست ميدالياً يلمع تحت الأضواء، بل شهادة ميلاد ثقافية لحقبةٍ صار فيها اللاعب نصاً، والسيرة الذاتية وثيقةَ انتماء، والمنتخب كتاب ذاكرة يكتبه الكبار والصغار في آن. فالنجومية هنا ليست ترفاً، بل هندسة وجدانية لبلدٍ قرّر أن يربّي أبناءه على أن الحلم مهنة يومية، وأن الانضباط جمالٌ لا يقل عن المراوغة، وأن القيم حين تمسك بيد الموهبة تتحول الرياضة إلى أثرٍ باقٍ يتجاوز النتائج.
إنها صناعةٌ نعم، لكن مادتها الأولى ليست المال وحده، بل تلك الروح الجماعية التي تتوزع بين أكاديميات تتّسع، واتحادٍ يرسم المسار، ومدرّجاتٍ تعلّم الهتاف مثلما تعلّم الصبر، وأسرةٍ تحرس البدايات كما تُهذّب النهايات. هكذا تندمج القاعة بالبهو، والمعول بالزهرة: سياسات رياضية رشيدة، وأمهات يضعن على جبين اللاعبين ما لا تضعه أي مؤسسة من يقين.
والثقافة؟ هي هذا الخيط غير المرئي الذي يجعل من تمريرةٍ حاسمة درساً في الذوق العام، ومن احتفالٍ متواضع درساً في التربية المدنية، ومن شكرٍ للملك والاتحاد والعائلة نصاً في المسؤولية المشتركة عن الفرح الوطني. ثقافةٌ تُصاغ في اللغة اليومية للصحافة الرياضية وهي تتخفف من البلاغة الفارغة لتصير قريبةً من الناس، دافئةً دون ابتذال، راقيةً دون تعالٍ، لأن القاعدة الذهبية أن نكتب كما نعيش، وأن نعيش كما نحلم.
في الرباط، بدا المشهد كأنه اتفاق غير مكتوب: سياساتٌ تحتفي بالمنظومة، ومنصّةٌ تحتفي بالإنسان، وجمهورٌ يحتفي بنفسه وهو يرى ابن الحيّ يلمع في سماء القارة. وحين ختم حكيمي بالشكر لأمه، بدا أن قارةً كاملة تضع رأسها على كتف قلبٍ كبير، قارةٌ تتذكر أنها تبدأ من البيت، ومن تفاصيل صغيرة تمنح الكرة معنى يتخطى الملعب إلى الحياة.
هكذا فقط تصبح الكرة أكثر من رياضة: تصبح ميثاقاً بين الحلم والانضباط، بين الإدارة والرعاية، بين الموهبة والبيت، بين اللاعب والأمّة التي ترى فيه نبضها وهي تقرأ الغد في عينيه. وحين يرفع اللاعب الكأس، يرفع معه بلداً كاملاً إلى مستوى جديد من الذائقة والكرامة، ويهمس للصغار: الطريق طويل، لكنه مُعبدٌ بحبّ الأمهات وعدل الجهد ونور الانتماء.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق