الكرامة في زمن الرقمنة: المجلس الوطني لحقوق الإنسان يدق ناقوس الخطر
✍️ بقلم: [محمد المخطاري ]
في زمن تتسارع فيه الأخبار، وتنتقل الصور الحية إلى ملايين الشاشات خلال ثوانٍ، يجد المجتمع نفسه أمام تساؤل ملحّ: أين تنتهي حرية التعبير، وأين تبدأ حدود الكرامة الإنسانية؟
هذا السؤال فرض نفسه بقوة في أعقاب حادثة اعتصام المواطن “ب.ز.” فوق خزان مائي مرتفع بدوار أولاد عبو، بإقليم بني ملال، والتي انتهت بمأساة إنسانية وجراح جسدية ونفسية لعدة أطراف، في مقدمتها عناصر من الوقاية المدنية والدرك الملكي، وأفراد من أسرة المعتصم.
لم تكن مطالب “ب.ز.” سوى صرخة لإنصاف شخصي، يتعلّق بفتح تحقيق في وفاة والده سنة 2019. وقد أشار المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في بيان رسمي، إلى أن المطالب تمّت متابعتها ميدانيًا وقضائيًا، في إطار وساطة فعالة قادتها اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان ببني ملال خنيفرة.
إلا أن مجرى الأحداث اتخذ منحى مأساويًا مع تعنّت المعتصم، وتطوره إلى اعتداء على عناصر تدخلت لإنقاذه، ما حوّل المطالبة بالحق إلى مشهد محفوف بالخطر، ليس فقط على الأفراد، بل على المجتمع بأسره.
الأخطر من الوقائع ذاتها كان التعاطي الرقمي معها؛ حيث تحوّلت الحادثة إلى مادة بصرية "حية" ومؤلمة، جابت منصات التواصل الاجتماعي دون حسيب أو رقيب. فمشاهد البث المباشر واللقطات الدامية انتشرت كالنار في الهشيم، دون أدنى اعتبار لحالة الضحايا النفسية أو خصوصية اللحظة الإنسانية الحرجة.
وهنا جاء تدخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي أطلق صرخة تحذير مدوية من هذا "الانفلات الرقمي"، معتبرا أن الكاميرا لا يجب أن تكون أداة للمساس بالكرامة، بل وسيلة للتوثيق المسؤول، وفق أخلاقيات المهنة وأبجديات الحقوق الإنسانية.
أشار بيان المجلس إلى ضرورة تعزيز الثقافة الإعلامية والرقمية، وتكثيف الجهود لدعم صحافة مهنية تحترم القيم الإنسانية، وتدرك خطورة التطبيع مع مشاهد العنف والآلام، لا سيما على الأطفال والمراهقين.
وفي الوقت الذي تتسابق فيه بعض المنصات على عدد المشاهدات والتفاعلات، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعلام يُوازن بين الحق في المعرفة والواجب الأخلاقي في الحماية.
لقد كشفت هذه الواقعة حجم التحدي الذي يواجهنا جميعًا كمجتمع، في التعامل مع القضايا الاجتماعية الحساسة: هل نريد فقط أن نشاهد ونشارك؟ أم أننا مستعدون لنعقل، ونتحاور، ونضغط من أجل حلول عادلة دون فوضى أو دموع؟
الحادثة ليست فقط مأساة فردية، بل ناقوس خطر، يدعو الجميع إلى وقفة تأمل: من المواطن البسيط إلى الإعلامي، من صانع القرار إلى المستخدم العادي للهاتف.
وفي النهاية، يظل المطلب الأهم هو أن تُعالج مثل هذه القضايا عبر المسارات القانونية والمؤسساتية، بعيدًا عن كل أشكال التصعيد الذاتي، أو الابتزاز الرقمي، أو المتاجرة بالمآسي.
الكرامة الإنسانية ليست مادة للنشر اللحظي، بل قيمة عليا يجب أن تظل مصانة، مهما بلغ وقع الحدث أو شدة التفاعل.








