لم أكن أتصوّر يوما، رغم كل المودة والاحترام والتقدير المتبادل، أنني سأتلقى العزاء في الأستاذ والمحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي.
تصوّرت جميع السيناريوهات والنتائج الممكنة لمقابلة صحافية بين متّفقين حد التطابق في بعض الأحيان، إلا أن يرتقي ويودّع هذه الحياة وأنا أحاوره.
كنت قد قررت مباشرة بعد الوفاة المأساوية التي أخذت منا ضيفنا على حين غرة، أن أخصص هذا الركن اليومي لعبارة تعزية قصيرة نغمسها في السواد ونصمت، لكن مع مرور الساعات، كان صوت ما يلحّ على الحكي والتبليغ، لأن الراحل زارنا وكله رغبة في التبليغ.
قصة هذه المقابلة التي انتهت دون أن نشكر الضيف ونودعه على أمل لقاء مقبل، كما هو دأبنا، غريبة وعجيبة، أتمنى ألا يوصلنا التأمل فيها واسترجاع تفاصيلها إلى اضطراب نفسي أو عقلي.
مقابلة بادر إليها الراحل عبد العزيز النويضي واختار توقيتها، ووضع محاورها، وكتب ما كان يريده أن يكون مضمونها، في صفحات مرقونة طبعها وحملها معه وسلّمها لي مسبقا، مبديا حماسا ورغبة جامحة في الحديث.
ونحن نقترب من موعد المقابلة، كان الراحل يحطّم كل قواعد العمل الصحافي في إجراء المقابلات ويتصرف كمن يستضيف نفسه، وبدورنا، أنا وزميلتي حنان بكور مديرة نشر الصحيفة، لم نجد أي حرج أو داع للاعتراض، تقديرا منا لشخص الراحل وأهدافه ومراميه النبيلة.
اعتبارات كثيرة حملتنا على هذا الاستسلام والانسياق، لوجود ثقة متبادلة وغياب أي توجّس مهني لدينا من أجندة ما أو رسالة مدسوسة يمكن أن يمررها.
كانت علاقتي بالرجل قد توطدت في غفلة منا معا، لا أدري متى ولا كيف، لكن الراحل أصبح في الفترة الأخيرة يعاملني بحنو الأب المحب لابنه.
قضيت الليلة الماضية أتقلب بين مشهد وآخر، واسترجعت جل ذكرياتي معه، بحثت عميقا في ذاكرتي عن أول معرفة لي به، فكانت حسب ما أظن كتابا له حول تحرير الإعلام السمعي البصري قرأته وأنا طالب صحافة.
استرجعت الكثير من الملفات والتحليلات والتقارير التي كان الراحل مصدرها الذي “فضّل عدم ذكر اسمه”.
ثقة كبيرة نسجت بيننا على مر السنين، كنت فيها الصحافي الذي يحاور ويوثق ويغطي، وكان فيها الخبير والمصدر الذي ينوّر ويبوح ويمنح المعطيات التي تؤسس للمعنى.
أحسست به وقد التفت نحوي باهتمام خاص في الأعوام الأخيرة، ثم جمعتني به تجربة زمالة دولية في التنظيم الذاتي للصحافة، وراح يدعوني لكثير من ندواته ولقاءاته المثقلة بهم الحقوق والحريات. ثم حصلت طفرة أخرى في علاقتنا عندما انتخب كاتبا عاما لجمعية “ترنسبرنسي المغرب”.
سارع حينها للاتصال بي، وطلب مني التفكير في الالتحاق بالجمعية، وأصرّ على أن الالتزام المهني والحرص على الحياد وعدم الانتماء التنظيمي، لا يمنعني من المشاركة من الداخل في عمل تخليقي كمثل محاربة الرشوة والفساد.
وأنا الحريص دائما على الاحتفاظ بمسافة مع الجميع، لم أجد ما يمنعني من قبول الدعوة بشكل مبدئي، لأتفاجأ يوما بالراحل يدعوني لحضور لقاء في مقر الجمعية. اعتقدت في البداية أن الأمر يتعلق بنشاط مفتوح، وكان اجتماعا رسميا لأحد الأجهزة التقريرية للجمعية، بينما لا أحمل حتى صفة عضو فيها.
دعاني إلى الاطلاع والاستعداد للانضمام، وقبل انطلاق الاجتماع، طلبت الكلمة سعيا مني لتجنب أي إحراج، وقلت للحاضرين إنني هنا بدعوة من الكاتب العام، وأنني سعيد ومعتز بوجودي معهم، لكنني سأغادر قبل انطلاق الاجتماع الرسمي، ليتدخل الراحل ويطلب مني البقاء موضحا لباقي الأعضاء أنني سأتابع فقط ولن أطرح أية مشكلة لأنني لن أصوت عندما يحين أوان القرارات… ثم انتهي بي الأمر منخرطا في الجمعية بعد أسابيع قليلة، بمناسبة جمعها العام الاستثنائي، وفي خلفية المشهد صوت عبد العزيز النويضي يردد ويعيد: نحتاج إلي تحضير الخلف، نحتاج إلى الشباب.
عندما هممنا بالإعلان عن الانطلاق الرسمي لمشروعنا الإعلامي هذا، صحيفة “صوت المغرب”، كان من بين من دعوناهم لحضور الحفل، فاعتذر لوجوده خارج المغرب، وبقي الوعد قائما بزيارتنا، إلى أن جمعتنا قبل فترة ندوة حول الحق في الحصول على المعلومات، كنت فيها متدخلا بينما حضرها مشاركا ينصت ويدوّن بعناية.
كانت نيتي أن أنهي مشاركتي وأعود بسرعة لمواصلة عملي في المكتب، لكن الحديث أخذني مع الأستاذ النويضي، ووجدتني أجالسه لتناول الغذاء في الفندق نفسه، ثم تطور الحديث إلى رغبة مشتركة في الانتقال معا إلى مكتب الجريدة ليزوره ونشرب قهوتنا معا.
غادرنا الفندق، ورحنا نزاوج بين المشي والتلويح لسيارات الأجرة سعيا إلى ربح الوقت، لمحني وقد أخرجت ورقة نقدية من فئة 20 درهما استعدادا لدفع مقابل الرحلة القصيرة، فطالبني بإرجاعها قائلا إنه سيدفع، قلت له إنها مسألة “صرف” فقط، فأخرج قطعا نقدية من جيبه قائلا: هذا هو الصرف، رجّع فلوسك.
وصلنا إلى مقر الجريدة، كان حريصا على تسجيل عنوانه في الذاكرة كي يعود إليه مستقبلا، فلم يجد أفضل من مقر المحكمة الدستورية المجاور للجريدة، وراح يردد مع نفسه: قرب المحكمة الدستورية…
شربنا قهوتنا رفقة الزميلة حنان بكور، وبدا كما لو وجد الجواب لسؤال راوده دون أن يفصح عنه عندما أتينا على طرح فكرة إجراء حوار صحافي مصوّر. بدا له الفضاء جميلا ومحفزا، وغادر باتفاق مسبق على ترتيب مقابلة جيدة للتعليق على الأحداث الحقوقية الآنية.
خلال شهر رمضان، وبينما كنا نكرس جل وقتنا للقاءات حوارية نوعية، اتصلت به لمعرفة مدى استعداده للحضور، فكان ردّه أنه خارج الرباط ولن يعود قبل أسبوع على الأقل، وتحديدا في أكادير. لم يكن غرضه إخباري بوجوده بعيدا بقدر ما ركّز على موضوع سفره وإبراز أهميته بالنسبة إليه: كانت قضية محمد رضا الطوجني التي سيفارق الحياة وهو يحاول التعليق عليها مساء أمس.
اعتبرنا في الجريدة أن فكرة المقابلة باتت مؤجلة إلى حين ظهور سياق آخر، وفضلنا التريث قبل استئناف المقابلات بحلة وشكل جديدين بعدما انتهى شهر رمضان، لنفاجأ بالأستاذ النويضي يتصل قبل أسبوع: هل فكرة الحوار ما زالت قائمة؟
لم يكن لنا إلا أن نرحب بالفكرة، خاصة أن السياق لا يخلو من قضايا يمكن طرحها مع ضيف مثل عبد العزيز النويضي.
رفعنا عنه كل حرج، بعدما شعرنا أن للرجل تصوّر جاهز، وطلبت منه الإفصاح عنه مباشرة: “حدد اليوم والساعة المناسبان بالنسبة إليك وسنتجهز لهما” قلت له.
فهمت من حديثه أنه يكلمني وبين يديه أجندة يقلب أوراقها ويختار بين أيامها، استقر أمره على الخميس 02 ماي الساعة الرابعة عصرا. قلت آمين، سنكون في انتظارك. “ماذا عن المحاور؟” سألني بشكل فوري، وكان شعوري دائما أن له تصورا مسبقا، قلت له إنك كاتب عام لحمعية ترنسبرنسي، وموضوع الفساد مطروح بقوة الواقع، فوافقني على ذلك مقترحا إضافة موضوعين اثنين: حرية الرأي والتعبير من خلال قضية الطوجني، ثم قضية غزة وما يجري فيها من جرائم، وهكذا كان.
اتصل بداية هذا الأسبوع مستفسرا ما إن كان الموعد قائما، فأكدت له ذلك، ثم عاد قبل الموعد بساعتين للاتصال، وفي كل مرة كنت أشعر به منكبا على مكتب وأوراق أو كتب أو ملفات… كان حريصا جدا على التحضير المسبق.
قال لي هل الموعد الرابعة أم الرابعة ونصف؟ فهمت كما لو أنه يطلب مهلة إضافية للتحضير، فأجبت أننا جاهزون لاستقباله في الساعة الرابعة، وله أن يحضر في الوقت الذي يناسبه بعدها. لكنه وصل قبل الرابعة بثلاث دقائق.
استقبلته بالقرب من المكتب بعدما اتصل بي معلنا اقترابه، دخلنا معا وكان يبدو متحمسا.
جلس لشرب قهوته والاستعداد للحوار.. بدا كما لو يستعجل التخفف من الأثقال. فتح فورا المواضيع التي تقلق راحته، بدا شديد الإحباط من الوضعين السياسي والحقوقي. من معضلة الفساد واستفحالها، إلى محاكمات الرأي والتعبير، وصولا إلى مشكلة بدت ملحة لديه: نحتاج إلى تكوين محامين شباب مدافعين عن الحقوق بسرعة، أنا والنقيب الجامعي والآخرون كبرنا ولم يبرز بعد من يتولى الدفاع عن الحقوق، وفي المقابل هناك محامون ضد الحقوق… النقيب زيز روبيح (يقصد نقيب المحامين في الرباط) منفتح وسنحاول أن نشتغل معه على فكرة المحامين الشباب من أجل الحقوق…
أتى الراحل في تلك الدردشة المسبقة شديد القلق على مستقبل الحقوق والحريات ودور المحامين في حمايتها، ذكر بعض الأسماء التي قال إنها باتت تستقوي بالسلطة وتفتخر بالمساهمة في ضرب الحقوق والحريات، في مقابل تناقص أعداد المحامين الحقوقيين. وكما لو يعتذر أو يقوم بتطهير روحي أثار بشكل تلقائي موضوع زميلنا سليمان الريسوني… قال إن ظروفا حالت دون انتصابه للدفاع عنه أثناء المحاكمة، وأن ذلك ما منعه من الدفاع عن عمر الراضي لاحقا، “وقد شرحت لأسرته الحرج الذي يمنعني من تسجيل نيابتي عن عمر بعدما غبت عن هيئة دفاع الريسوني”.
كان الراحل منذ عرفته يحرص على الانغماس في الملفات والقضايا التي ينوب فيها، خاصة قضايا النشطاء والحقوقيين والصحافيين، بشكل يحوّله إلى طالب باحث عن الاجتهادات والحجج والأمثلة… لهذا جاءنا أمس مسكونا بقضية الطوجني، ومحاولا تصريف شحنة حزن وغضب مما آلت إليه من حكم قاس ضد موكّله… “أنا حقيقة أشفق على القضاة في مثل هذه الملفات.. كانت المحاكمة رائعة وشبه مثالية، لكن الحكم كان قاسيا… ربما لأننا التحقنا أنا كيساري وزميل آخر قريب من جماعة العدل والإحسان بهيئة الدفاع هو سبب ذلك.. الله اعلم”، قال لنا الراحل في شبه مونولوغ وبنبرة لوم للذات واضحة.
حين بدأنا نستكمل التحضيرات التقنية للانتقال إلى بلاطو التصوير، أخرج حزمة أوراق من ملفه، وسأل: هل تتوفرون على آلة نسخ (فوطوكوبي)، وقدم لي الحزمة كي أطلع عليها، فإذا بها رؤوس أقلام وفقرات ومعطيات دقيقة في كل محور.
كأي أستاذ يسمح للطالب بفتح الكتب أثناء الامتحان، قال لي يمكنك الاستعانة بها أثناء الحوار، قد تعطيك بعد الأفكار لنطورها معا. قلت له إنني سأكتفي بتصويرها بالهاتف وأبقيها تحت عيناي…
“حوار مع يونس مسكين صوت المغرب”، كتب في أعلى الصفحة الأولى، ثم كان عنوان المحور الأول: الفساد في المغرب وتجربة ترنسبرنسي، الإطار النظري لتفسير ظاهرة الفساد في المغرب، الثغرات القانونية، مساهمات هيئة النزاهة قيادة شجاعة وتشخيص بدون مجاملة، حدود المحيط: المصالح + الأحزاب + الحكومة + ثغرات المؤسسات، عناصر الأمل، التطبيع وتعقد الموضوع، للمغرب مقومات التغيير لكنها تحتاج إلى النضال الديمقراطي وائتلاف قوى التغير على مشروع عملي للوصول إلى ملكية برلمانية… كأس العالم سيجبر الدولة على تطوير البنى التحتية لكن دون معالجة مشكل الفقر…
الموضوع الثاني: ملف رضا الطاوجني ووجهة نظر في تطبيق القانون الجنائي… خطورة تطبيق التشريع الجنائي.. خرق مبدأ المساواة أمام القانون.. تطبيق جرائم الحق العام على الصحافيين… مشكل التشهير والأخلاقيات… يتم التشهير بفاضحي الفساد ومن يقاوم اقتصاد الريع…
الموضوع الثالث: العدوان على غزة (موقفي)… هدف إسرائيل ومسألة السياسة الداخلية وصعود اليمين… مواقف الغرب: مفاجأة لكن تاريخ الغرب استعماري… المصلحة أولا…السلوك العنصري… الولايات المتحدة مصلحتها إذكاء الحروب في المنطقة… ألمانيا وفرنسا… الدول المطبعة: قتل القضية الفلسطينية عبر الإغراء بالمنافع والتهديد… ترامب والمغرب… عجز منظومة الأمم المتحدة… محكمة العدل الدولية… محكمة الجنايات الدولية لفلسطين… المعاملة التفاضلية للحالات: مقارنة بالوضع في أوكرانيا… ما بعد العدوان، قضية الشعب الفلسطيني وأحرار العالم، حكومة وحدة، تحية المناضلين من أجل فلسطين وضد التطبيع، مزيدا من مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل…
قمت بتصوير تلك الأوراق وحاولت القاء نظرة عليها خلال الأربعين دقيقة التي استغرقها حوارنا قبل أن يوافي ضيفي الأجل، لكني الآن وبعدما قرأتها بالكامل وأكثر من مرة، فهمت لماذا توقف قلب عبد العزيز النويضي.
الرجل كان يئن تحت أثقال كبيرة، يريد أن يقول الكثير، تزاحمت الكلمات والمواقف والصرخات في حلقه حتى نالت منه وأعجزته فأسكتته للأبد.
Un malaise.. un malaise.. قال المشمول برحمة الله وهو ينظر إلي ويشير بيده اليمنى نحو صدره، فكان ذلك آخر ما قاله.
لعمري إنه الألم الذي لن يبرحنا ما حيينا. ألم فراق الأخيار بهذه الطرق التي قادتنا إليها الأقدار، فلا ندري أهو التشريف ما تقصده لنا أم هو الألم والضيق والمعاناة الذي يجمعنا أحياء وأموات.
أعزي نفسي وزملائي ممن شهدوا هذا الحدث الأليم، وأعزي أهل عزيزنا وذويه وأصدقائه.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق