نيران عاشوراء في بني ملال: حين تتحول الطقوس إلى صرخة على الهامش

 






نيران عاشوراء في بني ملال: حين تتحول الطقوس إلى صرخة على الهامش

إشعال الأمل بدل إطفاء اللهب و بدائل ممكنة تبدأ من الواقع



 بقلم : محمد المخطاري 


في ليلة عاشوراء، حين تتوهج النيران في أزقة وأحياء بني ملال، لا يبدو المشهد مجرد طقس شعبي موسمي، بل يتحول إلى مرآة صادقة تعكس واقعًا اجتماعيًا مشحونًا بالصمت والخذلان. ما يُرى على السطح هو لهو أطفال ومراهقين، لكن خلف ذلك تتردد أصداء صرخة غير معلنة، تطلقها فئة من شباب المدينة الذين اختاروا النار وسيلة للفرح، وربما للتنفيس عن غضب مكبوت أو حاجة دفينة للاعتراف بوجودهم.

في أحياء لا تعرف معنى المسبح العمومي، ولا ترى ملاعب القرب إلا في الصور، ولا تزورها أنشطة ثقافية أو رياضية إلا نادرًا، تصبح النار ملاذًا مؤقتًا للانتماء إلى طقس مشترك، حتى لو كان خطيرًا، عشوائيًا أو عديم الجدوى. وحين تغيب البدائل، يتحول الاحتفال من مناسبة دينية إلى شكل من أشكال الاحتجاج الصامت، الذي لا ترفعه لافتات ولا تكتبه الشعارات، بل تترجمه لهبٌ مشتعل في زقاق، وصوت مفرقعة في منتصف الليل.

هكذا، وسط التهميش والنسيان، تصرخ نيران عاشوراء بلغتها الخاصة: "نحن هنا... لكننا منسيّون".

في أحياء ، بل بدواوير ، لا تبدو ليلة عاشوراء مجرد مناسبة احتفالية، بل مشهدًا مألوفًا يتكرر كل عام، حيث يتحرك الأطفال والمراهقون في الأزقة لجمع إطارات السيارات القديمة، وتحويلها إلى كومة من اللهب وسط الشارع. لا إشراف، لا بدائل، ولا حتى معنى واضح لما يحدث سوى أنهم يبحثون عن لحظة انتماء مفقودة. هؤلاء الأطفال لا يلعبون بالنار حبًا في الخطر، بل لأنهم لا يجدون ما يلهب خيالهم سوى الدخان. إنهم لا يبحثون عن لهو عابر، بل عن مكان يضمهم، عن متنفس بسيط يشعرهم بوجودهم.

لو توفرت لهم مسابح عمومية تحفظ كرامتهم، أو ملاعب قرب مهيأة داخل أحيائهم، أو دور شباب مفتوحة ببرامج واقعية، لربما تحوّلت تلك الليلة إلى احتفال جماعي راقٍ، فيه الموسيقى والرسم والمسابقات بدل النيران والمفرقعات. ما يفتقرون إليه ليس الرغبة في الاحتفال، بل شروط الاحتفال الحضاري التي تحترم طفولتهم وتمنحهم بديلاً عن اللعب على حافة الخطر.

لا يمكن فهم مشهد نيران عاشوراء في أحياء بني ملال دون التوقف عند الخلل العميق في البنية التحتية الاجتماعية الموجهة للأطفال والشباب. فحين تنظر إلى هذه المناطق، تكتشف أن الفضاءات المخصصة للتربية والترفيه شبه غائبة أو مهملة. لا مساحات خضراء تتيح اللعب بأمان، ولا ملاعب قرب موزعة بشكل عادل داخل الأحياء، ولا دور شباب تعمل بانتظام أو تقدم برامج جذابة تشد المراهقين بعيدًا عن الشارع. وإن وُجدت هذه المرافق، فهي غالبًا مغلقة أو مهترئة أو خاضعة لمنطق الريع والمحاباة.

في هذا السياق، تصبح الأزقة والطرقات هي المتنفس الوحيد، وتتحول النيران إلى ملعب مفتوح في غياب البدائل. لا يعود اللهو عبثًا، بل نتيجة منطقية لإقصاء ممنهج يجعل من الأطفال ضحايا للفراغ، ومن الشباب فريسة للملل أو الغضب الصامت. الغريب في الأمر أن هذا الواقع لا يحتاج إلى دراسات معمقة لإثباته، بل يكفي القيام بجولة قصيرة في الأحياء الهامشية لاكتشاف حجم التفاوت بين ما يُفترض أن توفره المدينة لأبنائها، وما هو قائم بالفعل. التهميش هنا ليس فقط مادّيًا، بل رمزي أيضًا، حين يشعر الطفل أن مدينته لم تفكر فيه أصلًا.

أمام هذا الواقع، لا يُجدي لوم الأطفال أو ملاحقة الشباب في ليلة عاشوراء. بل ما نحتاجه هو التوجه نحو بدائل ممكنة تنطلق من حاجيات الناس اليومية، وتُصاغ انطلاقًا من واقع الأحياء، لا من مكاتب مغلقة. فالحلول لا يجب أن تكون ضخمة أو مكلفة بالضرورة، بل ذكية، تشاركية ومستدامة.

أولى الخطوات تبدأ بتهيئة فضاءات بسيطة داخل الأحياء نفسها. في كل حي يوجد ساحة مهملة، أو قطعة أرض فارغة يمكن تحويلها، بتنسيق مع السكان والجماعات المحلية، إلى ملعب قرب صغير، أو فضاء مفتوح للعب الآمن. هذا النوع من المبادرات لا يتطلب ميزانيات ضخمة، بل إرادة سياسية وتدبيرًا شفافًا.

كما يمكن إعادة فتح دور الشباب الشبه المجمدة، ليس فقط كجدران وأثاث، بل كمراكز ديناميكية مفعّلة ببرامج واقعية، تنشط على مدار السنة، بالشراكة مع الجمعيات المحلية التي تعرف نبض الأحياء وحاجياتها الحقيقية. أنشطة بسيطة كالرسم، المسرح، الموسيقى، الورشات البيئية أو الدروس الداعمة، يمكن أن تغيّر الكثير من واقع الشباب، وتخلق ارتباطًا إيجابيًا بالمكان.

إضافة إلى ذلك، يمكن للسلطات تنظيم برامج مرافقة لعاشوراء، تجعل من المناسبة فرصة تربوية وثقافية، عوض أن تكون لحظة فوضى. فرق تنشيط جوالة، عروض فنية متنقلة، لقاءات تحسيسية بالشراكة مع رجال الوقاية المدنية والأمن، يمكن أن تصنع فارقًا كبيرًا في سلوك الأطفال، إذا شعروا أنهم جزء من الحدث لا خارجه.

 

وأخيرًا، لا بد من إشراك الأسر، لأنها جزء من الحل، لا فقط طرف في المشكلة. فحين يشعر الآباء أن هناك مؤسسات تحتضن أبناءهم وتمنحهم فرصًا آمنة للفرح، يصبح من السهل بناء الثقة، وتشكيل جبهة تربوية موحدة تحمي الطفولة وتعيدها إلى قلب المدينة، لا على هامشها.

ليلة عاشوراء في بني ملال ليست فقط موعدًا للاحتفال الشعبي، بل لحظة كاشفة لمستوى علاقتنا بأطفالنا، وبالحق في اللعب، وبكرامة العيش في المدينة. ما نراه من حرائق صغيرة ومفرقعات صاخبة ليس فوضى عابرة، بل عرض من أعراض عميقة لتهميش متراكم، لا يعالَج بالقمع ولا بالإنكار، بل بالإصغاء ثم الفعل.

إن إطفاء نيران عاشوراء لا يتحقق بمياه رجال المطافئ فقط، بل بتوفير الأمل البديل، وخلق مسارات جديدة تُشرك الطفولة في الحياة العامة وتمنحها مكانًا آمنًا داخل المدينة، لا على هوامشها. والرهان اليوم ليس تقنيًا أو ظرفيًا، بل تربوي وثقافي وتنموي في جوهره.

على المنتخبين المحليين، والسلطات، والمجتمع المدني، أن يخرجوا من منطق التدبير الموسمي، ويتجهوا نحو رؤية قريبة من الناس، تنطلق من الأحياء المهمشة، وتمنحها ما تستحقه من مرافق وعدالة مجالية وكرامة إنسانية.

فلنُطفئ نار الهامش، لا بإخمادها فقط، بل بإشعال نور العدالة المجالية، والتربية، والاحتضان المجتمعي. فقط حينها... لن يعود الأطفال بحاجة للنار ليُشعروا المدينة بوجودهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق