إفريقيا تُحصّن قرارها السيادي: من كيغالي إلى العيون... تحوّلات تقوّض الانفصال وتصون السيادة

 



إفريقيا تُحصّن قرارها السيادي: من كيغالي إلى العيون... تحوّلات تقوّض الانفصال وتصون السيادة

 

إفريقيا تكتب معادلتها الجديدة

 

بقلم: [محمد المخطاري]

 

في قلب التحوّلات الجيوسياسية العميقة التي تعصف بالقارة الإفريقية، تبرز ملامح اتجاه جديد آخذ في التشكل: تعزيز القرار الإفريقي المستقل، وفكّ الارتباط عن المحاور الإيديولوجية القديمة التي طالما عرقلت مشاريع التنمية والوحدة. هذه التحولات لا تأتي عبر البيانات والخطب، بل تُترجم على الأرض من خلال المواقف السياسية الجريئة، وتبدّل التحالفات، وانحسار التأييد لقضايا انفصالية أصبحت خارج السياق التاريخي والواقعي للقارة.

 

درس رواندي في ضبط النفس السيادي

 

زيارة الرئيس الرواندي بول كاغامي إلى الجزائر مثّلت لحظة مفصلية في هذا السياق المتحوّل. ففي وقت راهنت فيه الجزائر على استمالة كيغالي لموقف داعم لأطروحتها في قضية الصحراء الغربية، اختار كاغامي التزام الصمت السياسي المعبّر، رافضًا الانخراط في نزاع إقليمي لا يخدم مصالح رواندا ولا يتماشى مع رؤيته لإفريقيا الجديدة.

كاغامي لم يقدّم دروسًا لفظية، بل مارس سياسة الهدوء الإستراتيجي، وأرسل رسالة بالغة الدلالة: القادة الأفارقة الجدد لم يعودوا رهائن للضغوط أو للمواقف الموروثة. إنهم يحسبون حساباتهم وفق منطق السيادة والمصلحة الوطنية والجدوى القارية، وليس وفق اعتبارات التضامن الإيديولوجي الذي أُفرغ من مضمونه مع الزمن.

 

تراجع الدعم الانفصالي: لحظة الحقيقة

 

هذا الموقف ليس معزولًا، بل يأتي في سياق إفريقي أوسع يشهد تفكك الحزام الداعم للطرح الانفصالي في ملف الصحراء. دولٌ مثل زامبيا، الغابون، مدغشقر، وغينيا سحبت اعترافها بجبهة "البوليساريو"، في خطوات لم تكن وليدة ضغوط ظرفية، بل ناتجة عن مراجعة عميقة لتكلفة المواقف غير الواقعية. هذه الانسحابات تعبّر عن تزايد الاقتناع بأن دعم الانفصال يتعارض مع مصلحة القارة، ويعطّل مشاريع الوحدة والتكامل التي تحتاجها الشعوب الإفريقية أكثر من أي وقت مضى.

ففي زمن تتسارع فيه وتيرة التحديات العابرة للحدود – من الفقر وانعدام الأمن الغذائي، إلى التغير المناخي والإرهاب العابر للدول – أصبح من العبث السياسي الانشغال بقضايا انفصالية ترهق الدول وتستنزف الموارد. وبهذا المعنى، فإن انحسار الاعتراف بـ"البوليساريو" ليس مجرد تراجع في عدد المؤيدين، بل تفكك فعلي لبنية إقليمية كانت تقوم على تجييش المواقف ضد وحدة المغرب الترابية.

 

المغرب يبتعد عن منطق الرد... ويقترب من واقع التنمية

 

في خضم هذه التحولات، يبرز النموذج المغربي في التعامل مع قضية الصحراء كأحد أكثر النماذج اتزانًا وواقعية. فالمغرب لم يعد يسعى إلى حشد الاعترافات أو خوض معارك دبلوماسية رمزية، بل انتقل إلى منطق بناء الشراكات الثنائية والمتعددة الأطراف على أساس المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل.

ما يلفت الانتباه أن المغرب لم يُقابل الحملات العدائية بالردود الانفعالية، بل ركّز على ترسيخ حضوره كفاعل موثوق داخل القارة، عبر مشاريع ملموسة في مجالات الصحة، التعليم، الزراعة، الطاقات المتجددة، والبنية التحتية. وهو بذلك لا يفرض مواقفه، بل يُقنع بها عبر قوة النموذج لا قوة الضغط.

 

الشرعية بالمشاريع لا بالشعارات

 

في عالم تتراجع فيه اللغة الإيديولوجية لحساب لغة النتائج، نجح المغرب في نقل قضية الصحراء من مجال النزاع إلى فضاء التنمية. وهذا ما جعله شريكًا موثوقًا في غرب إفريقيا ووسطها، بل حتى في مناطق كانت تقليديًا أقرب للطرح الانفصالي.

الشرعية التي يبنيها المغرب داخل إفريقيا لا تقوم على الخطاب السياسي وحده، بل على شبكات مترابطة من المصالح الاقتصادية والتنموية: من نقل التكنولوجيا الزراعية، إلى التكوين المهني، إلى الربط الكهربائي والموانئ، وهي مشاريع تعزّز مصداقيته وتعكس التزامًا حقيقيًا تجاه مستقبل القارة.

 

ما بعد الشعارات: زمن القادة الواقعيين

تحوّلات المواقف في إفريقيا لا تنفصل عن صعود نخبة سياسية جديدة أكثر تحررًا من إرث الماضي. قادة مثل بول كاغامي (رواندا)، ماكي سال (السنغال)، نانا أكوفو-أدو (غانا) يمثلون جيلًا جديدًا يرفض الانخراط في نزاعات عبثية، ويُفضّل التركيز على التحديات الحقيقية التي تُواجه مجتمعاتهم: البطالة، البنية التحتية، الصحة، الرقمنة، والتعليم.

وهؤلاء القادة، بتوجهاتهم الواقعية، يرفضون الأطروحات الانفصالية لأنها تُعيد إنتاج الانقسام وتُضيّع فرص التنمية، ويجدون في المغرب شريكًا يقدم نموذجًا عمليًا للتعاون القائم على الأفعال لا الأقوال.

 

المغرب كفاعل داخل إفريقيا الجديدة

 

قضية الصحراء المغربية لم تعد، كما كانت، ورقة صراع إقليمي فقط، بل أصبحت محورًا في رؤية مغربية شاملة لإفريقيا مستقرة ومتكاملة. الطرح المغربي لم يعد مجرد دفاع عن وحدة ترابية، بل أضحى امتدادًا لمشروع سياسي وتنموي متكامل يتناغم مع أولويات القارة.

في هذا التصور، لم يعد المغرب فقط "بلدًا يدافع عن أرضه"، بل طرفًا يشارك في بناء إفريقيا المستقبل، القائمة على احترام السيادة، تقاسم الفرص، وتجاوز منطق الهيمنة.


من كيغالي إلى الرباط، ومن أكرا إلى داكار، تتشكل معادلة إفريقية جديدة تقوم على السيادة، الواقعية، والتنمية. تتراجع فيها الأطروحات الانفصالية التي ثبت أنها تُبدد الموارد وتُغذي النزاعات، ويصعد فيها خطاب الشراكة، والاستثمار في الإنسان، وبناء شبكات المصالح الذكية.

إن إفريقيا اليوم لا تحتاج إلى من يُحيي صراعات الماضي، بل إلى من يقترح حلولًا للمستقبل. والمغرب، من خلال نهجه السيادي التنموي، لا يدافع فقط عن وحدة أراضيه، بل يقدم إجابات عملية لتحديات القارة بأكملها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق